استغلال الطاقات المتجددة، وعلى رأسها الطاقة الشمسية، كان في مقدمة أولويات واهتمامات الحكومات المتعاقبة، التي خصصت لذلك مشاريع كثيرة، أو ما سمي “المشاريع بمستوى (الجيغا واط)”، لكن أيا منها لم ير النور.. ففي فيفري 2011 تم تبني “البرنامج الوطني للطاقات المتجددة والفعالية الطاقوية، آفاق 2030″، لإنتاج 22000 ميغا واط، وتم تحيينه في سنة 2015، ومشروع “دفاتر الأعباء” لمناقصة 4050 ميغاواط المنتجة من الطاقة الشمسية، فضلا عن مشروع “تافوكث1-TAFOUK1” لإقامة محطات للطاقة الشمسية الكهروضوئية بسعة “4000 ميغا واط”، وقبل ذلك كان هناك المشروع الجذاب والمغري “ديزارتيك” الذي أسال الكثير من الحبر ولا يزال..
فلماذا أخفقت الجزائر في تجسيد مختلف المشاريع الكبرى للطاقة الشمسية التي أعلن عنها في أوقات سابقة، ومن بينها “ديزارتيك”؟ وهل فكرة ديزارتيك ولدت لتموت، أم إنها مجرد وهم، تم تغذيته إعلاميا، لاعتبارات وأبعاد أخرى غير البعد الطاقوي الصرف؟ هل السبب وراء كل ذلك، يكمن فعلا في غياب الإرادة السياسية؟ أم إن المشكل يكمن في ضعف المفاوض الجزائري، وانسياقه وراء الإملاءات الخارجية، التي يضعها البعض في خانة رغبة “فرنسا” في إعاقة تنمية الطاقات المتجددة في الجزائر؟ وما هي الجدوى الطاقوية والاقتصادية لكل مشروع من هذه المشاريع؟ وكيف يمكننا بعث “سوق ناشئة” للطاقات المتجددة، وما هو دور فواعل السوق في مرافقة عمل هذه السوق؟ وما هو دور البنوك؟ وهل يمكن تدارك ذلك؟ أم إن الأوان فات؟ هذه الأسئلة وأخرى سيجيب عنها “منتدى جريدة الشروق”.
المقاربة البيئية هدفها تعميم دفع ضريبة البيئة
الطاقات المتجددة حتمية للدول المصنعة والفقيرة طاقويا
قال الخبير في الطاقات المتجددة، مزيان مهماه، إن النموذج الأصلح للجزائر هو النموذج المبني على التنويع، من الطاقة الشمسية الحرارية والطاقة الكهروضوئية وطاقة الرياح وطاقة جوف الأرض، لأن الجزائر تتوفر على نحو 230 منبع حار، طاقة الكتلة الحيوية وطاقة المساقط المائية.
ويبقى هذا النموذج غائبا، وفق ضيف المنتدى، لأن ما تنتجه الجزائر من طاقة كهربائية من الغاز، يعادل ما نسبته 92 بالمائة، في حين إن النسبة المتبقية المقدرة بـ 8 بالمائة، مصدرها محطات هجينة.
يقول الخبير: “في 2010 كنا نتوفر على 200 ميغاواط من المساقط المائية، هذه السعة لم تتطور، لأن اهتمامنا انصب حول الطاقة الشمسية. ونحن كنا نناضل من أجل أهمية الطاقة الشمسية، بالنظر إلى كون الجزائر تنام على أهم مخزون شمسي في العالم”.
ويبدو أن السلطات الجزائرية استشعرت هذا الأمر، ولذلك قامت مؤخرا بتنصيب لجنة بين العديد من القطاعات لإعادة بعث الاهتمام بالطاقة الكهرومائية، التي تعتبر أيضا من الطاقات النظيفة.
ويتساءل: “اليوم هناك مطالب بالذهاب نحو الطاقات المتجددة، وقد أصبح ذلك مطلبا جماهيريا ومجتمعيا، وهو ما شكل ضغطا اجتماعيا من أجل الذهاب إلى هذا النوع من الطاقة، في حين إنني أصبحت أحجم عن الذهاب بسرعة نحو الطاقات المتجددة، فلماذا انقلب الهرم؟
ومضى مستطردا: “حتى نفكك هذه الإشكالية، ينبغي الإقرار أولا بأن مشكلة الطاقات المتجددة في الجزائر ليست مشكلة قرار سياسي ولا توجه سياسي، ففي 2011 تمت المصادقة على البرنامج الوطني للطاقات المتجددة والفعالية الطاقوية في فيفري، وتم تحيينه في 2015، ثم تم إنشاء وزارة البيئة والطاقات المتجددة في 2017. كما تم ضم وزارة الطاقات المتجددة مع وزارة البيئة، التي كانت مع قطاع الموارد المائية، وكان ذلك في حكومة عبد المجيد تبون، الذي هو رئيس الجمهورية اليوم. وهذا معناه أن هناك قناعة بالنسبة إلى رأس الهرم بأهمية الطاقات المتجددة، ولذلك جاء إنشاء وزارة الانتقال الطاقوي والطاقات المتجددة، وهذا دليل آخر على أن هناك إرادة سياسية قائمة لدى الرئيس منذ 2017″، غير أن الإشكال، برأي الخبير، هو أن نفس الأخطاء يتم إعادة استنساخها منذ 2002.
من جهة أخرى، تساءل مهماه بوزيان: “هل نحن اليوم أمام حتمية للذهاب إلى الطاقات المتجددة؟ لا بد أن نجيب هل الحتمية طاقوية أم بيئية أم اقتصادية أم تكنولوجية؟ هذه هي الأسئلة الجوهرية”.
وأضاف: “اليوم هناك دول مثل المغرب وجدت نفسها ملزمة بالذهاب إلى الطاقة الشمسية، لأنها ليس لديها طاقة أحفورية، في حين إن الجزائر لديها طاقة بديلة وهي الطاقة الأحفورية”.
واستدرك: “هناك من يجهل أن 40 بالمائة من كهرباء ألمانيا منتجة من الفحم الحجري، ومع ذلك تعتبر ألمانيا رائدة في الطاقات المتجددة، وحتى دولة مثل الهند 70 بالمائة من كهربائها مصدرها الفحم، وهي ثاني دولة مستوردة للفحم”.
وفي ما يتعلق بأوروبا الغربية، لماذا هي ذاهبة إلى الطاقات المتجددة؟ يتساءل ضيف المنتدى، لأنها ليس لديها طاقة أحفورية، فضلا عن كونها لديها أزمة بيئية، بسبب التلوث الذي مصدره الصناعة. “أما نحن في الجزائر فليس لدينا مشكل بيئي لأن المشكل عند الدول الملوثة. هناك واحد بالمائة في العالم من الأغنياء هم من يلوث العالم، ويلزمونك أن تشاركهم في المقاربة البيئية وتدفع معهم الضريبة البيئية”.
كيف جاءت فكرة ديزارتيك ولماذا؟
عاد الخبير الطاقوي مهماه بوزيان، خلال استضافته بفوروم “الشروق” إلى أصل ديزارتيك، الذي خرج كمفهوم من نادي روما، من منظور وقف النمو الذي نادى به المشاركون في النادي، معتبرا الفكرة قديمة نشأت في السبعينيات، ونضجت بداية 2005، من خلال أطروحة دكتوراه لطالبة ألمانية، تم استحواذ نتائجها من طرف الوكالة الألمانية لأبحاث الفضاء، التي قامت بتثمين توصيات الأطروحة، وعمّقت البحث فيها بالتنسيق مع الشبكة المتوسطية للطاقة، ليتم إنشاء الفكرة كمشروع بداية سنة 2009 من أجل المزواجة بين الحزام التكنولوجي في شمال المتوسط والحزام الصحراوي في جنوب المتوسط غير المستغل لأجل “إنارة أوروبا”.
ونفى الخبير أن تكون “ديزارتيك” على علاقة بالحكومة الألمانية، مؤكدا أن استغلال نتائج أطروحة الطالبة من طرف شبكة البحث الطاقوية العابرة للمتوسط، جعلها أرضية سانحة لتطوير ديزارتيك، حيث شاركت في الأرضية مجموعة من 12 مؤسسة من بينها العملاقان الألمانيان بوش وسيمانس، والمجمع الجزائري سيفيتال، المجتمعة في ميونخ الألمانية سنة 2009، تاريخ صقل الفكرة، وجعلها حقلا تجاريا مربحا بوضع شبكة تمتد من الصحراء الغربية إلى فلسطين، في مرحلتها الأولى، وصولا إلى دول الخليج في المرحلة الثانية، باتجاه تركيا، وعبورا إلى قبرص واليونان ومالطا وعن طريق مضيق جبل طارق نحو غرب أوروبا.
وقال بوزيان إن الشبكة الطاقوية المتكونة من 12 مؤسسة، قامت بحسابات بغية الوصول إلى 15 بالمائة من حاجة أوروبا من الطاقة التي تم تقديرها سنة 2050 بـ100 جيغاواط ما يعادل 100 مليار واط، بتكلفة استثمار كلي بـ 400 مليار أورو، ما يعادل 530 مليار دولار، تغطي مختلف أنواع الطاقة عبر الشريط المتوسطي والمغاربي، انطلاقا من المغرب من طرفاية إلى الصحراء الغربية باتجاه نواقشط في مجال الطاقة الريحية، نحو الطاقة الشمسية بالجزائر، والطاقة الشمسية الكهروضوئية بتونس، والطاقة الشمسية الحرارية بليبيا، ومساقط المياه بمصر والكتلة الحيوية بكل من فلسطين ولبنان، مضيفا في الوقت نفسه، أن القيمة المالية المخصصة لتطوير ديزارتيك لم تضعها الحكومة الألمانية، بل تمت بمساهمة من طرف كيانات خاصة وعمومية في جنوب المتوسط.
وأضاف الخبير الطاقوي أن ديزارتيك بدأت كمؤسسة في عام 2011 وسطرت لنفسها أهدافا من خلال تقييم المشاريع التي أصبحت بمثابة نماذج لديزارتيك، من بينها مشروع “تونور” وهو مشروع طاقة شمسية مركزة في تونس بقدرة 2 جيغا واط، خلق نحو 20000 فرصة عمل محلية بصورة مباشرة وغير مباشرة، تضمن المشروع محطة تبريد جاف لخفض استهلاك المياه بمقدار 90 بالمائة، وكان من المتوقع وقتها أن يبدأ المشروع بتوليد الطاقة عام 2016.
في ظل توجه البلاد نحو الانتقال الطاقوي
لا بد من مؤسسة كبيرة خاصة بالطاقات المتجددة
دعا خبير الطاقة، بوزيان مهماه، إلى عدم حصر هندسة الانتقال الطاقوي ضمن قطاع وزاري معين، وقدر أنه يتعين التكفل به من طرف الوكالة الوطنية للأمن الطاقوي، مؤكدا أن الانتقال الطاقوي حسبه ليس عبارة عن عمليات مجزأة في قطاعات وزارية، وهو تصور منظوماتي لمشاريع كبيرة، للابتعاد عن تداخل القطاعات في المهام والصلاحيات في إشارة منه إلى الإقرار في التوسع في مجال مادة “GPL” المتكفل به في قطاع وزاري آخر.
وذهب الخبير خلال نزوله ضيفا على “منتدى جريدة الشروق”، إلى أن التفكير حاليا في أولوية الذهاب إلى مشاريع الإنارة العمومية التي تحدث عنها رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، في مجلس الوزراء الأول، مؤكدا أن هناك رقمين لعدد أعمدة الإنارة العمومية بالجزائر، وهما 5 ملايين عمود إنارة عمومية جاء بعده إحصاء وزارة الداخلية الأخير المتمثل في 3 ملايين و200 ألف عمود إنارة عمومية، الموجودة في حظيرة البلديات، مضيفا أن هناك توجها رسميا باستبدالها بالطاقات المتجددة و”اللاد”.
كما ثمن مهماه مسعى رئيس الجمهورية في مجال رفع الانتقال الطاقوي عن المستوى القطاعي إلى مستوى ما سماه الخبير “ما فوق القطاعات”، باعتباره صيرورة ممتدة ما بين القطاعات قصد تأميم الانتقال الطاقوي للأجيال المقبلة في إطار الاستهلاك القطاعي في مختلف الوزارات، يضيف الخبير، داعيا إلى إنشاء مؤسسة وطنية كبيرة لمشاريع الطاقات المتجددة مع المتابعة إلى غاية لحظة استلام المشروع، مطالبا في ذات السياق النخبة العلمية بالالتزام بالمسؤولية الاجتماعية للباحثين وبناء الاتصال المؤسساتي المبني على اليقظة.
ووفق الخبير مهماه بوزيان، فإن الانتقال الطاقوي أصبح ضرورة ملحة وملزمة، مع التركيز على أهمية الطاقات المتجددة، خاصة الطاقة الشمسية، الاقتصاد الطاقوي، والفعالية الطاقوية.
وأضاف ضيف المنتدى أنه يجب أن تكون شركة مختصة فقط في الكهرباء، ذات رأسمال كبير من خلال الانفتاح على البورصة، التي تفرض شفافية الأرقام، ومن ثم تكون لها قدرة على القيام بالمشاريع الضخمة في مجال انتقال الطاقة، أو إنتاج الكهرباء من السدود والغاز والمازوت، خارج السياسة دون تدخل أو شراكة من طرف مؤسسة سوناطراك.
إقحام إسرائيل أفشل الكثير من مشاريع الطاقة المتجددة
يعتقد الخبير مهماه بوزيان أن الكثير من المشاريع الكبيرة للطاقة المتجددة ذات البعد الدولي، فشلت لأن هناك أطرافا حاولت إقحام دولة الكيان الصهيوني في تلك المشاريع.
وقال: “في العام 2006 شاركت في منتدى حول المشروع المغاربي الأوروبي لإنتاج الهيدروجين وتصديره نحو أوروبا، وقد أنجزت دراسة الجدوى ونشرت في دوريات عالمية، غير أن المشروع توقف، يقول ضيف المنتدى، لأننا رفضنا أي وجود لدولة الكيان الصهيوني ضمن المشروع ولو على الصعيد العلمي.
وأضاف: “ولموقفنا هذا المتجذر النابع من عقيدة الشعب الجزائري، توقف المشروع ليعاد بعث الفكرة ضمن تقرير الوكالة الدولية للطاقة في لقاء مجموعة العشرين في اليابان، في جوان في 2019 من خلال الحديث على أن مستقبل الهيدروجين بالنسبة لأوروبا هو في شمال إفريقيا، وتحديدا الجزائر”.
الخبير زهير مزيان يعتبر المشكل تنظيميا
غياب القوانين التطبيقية لترقية الطاقات المتجددة عرقل المشاريع
قال زهير مزيان المهتم بملف الطاقات المتجددة، إن تعاطي السلطات الجزائرية مع مشروع “ديزيرتيك”، راجع لعدم توفر القوانين التطبيقية، وأوضح أن القانون 04/09 المتعلق بترقية الطاقات المتجددة، الذي تم التصويت عليه سنة 2004، ويقضي بوضع برنامج خماسي يدخل في إطار مخطط التهيئة العمرانية في ظل آفاق 2020، لم تصدر قوانينه التطبيقية، ولم يحظ بالمتابعة، رغم أنه كان مصدرا للمرسوم التنفيذي رقم 17/98 الصادر سنة 2017 الذي يتم اليوم الاستناد عليه على أنه يخضع كل مستثمر في مجال الطاقة المتجددة للجوء إلى نظام المناقصات، الأمر الذي يحتاج – حسبه – إلى إعادة النظر فيه لارتباطه بالقانون 09/04 الذي ستنتهي صلاحياته في 31 ديسمبر 2020.
ولاحظ مزيان أن أسباب عدم تجسيد مشروع “ديزارتك” رقم (1) راجع لغياب الانتقال الطاقوي، بحكم اعتماد الدولة على الطاقة الأحفورية، كما أن استحداث وزارة للطاقات المتجددة والانتقال الطاقوي مؤخرا، لا يؤهلها للتحضير التنظيمي لقيادة مشاريع مثل تلك التي تم الإعلان عنها على غرار “تافوكت 1″، لعدم استحداث هيئة تنظيمية يخولها القانون التفاوض مع الشركاء الأجانب، إذ كان يتطلب التمويل الخارجي للمشاريع.
وبرأي مزيان، فإن التجربة الميدانية أكدت أنه إلى يومنا هذا لم تتمكن الدولة من قيادة مشروع ضخم للطاقة الشمسية لأسباب تعود أولا إلى أن كفاءاتها مقتصرة فقط على الطاقة الكهربائية التي مصدرها الغاز.